نشوان ذنون عبد الله.
حدثني من أثق به وهو إستاذي (صالح سليمان) .. قال تخرجت من كلية الإدارة و الإقتصاد في سنة ١٩٦٣.. وقد كان أكبر موقف أثر بي في حياتي في سنة ١٩٦٥ .. عندما نقلت لأستلم ذمة مخزن كبير لأحدى شركات وزارة التجارة .. وقد كان هناك تلاعب كبير في الذمة .. وأبلغوني بأنه سيتم تعويض النواقص من المستودعات الرئيسية .. حسب الكتب الرسمية المرقمة بتواريخها .. وقد إضطررت للتوقيع لأستلامها .. لأزرع نوع من الثقة .. بيني وبين من إستلمت منه الذمة .. ولأثبت لهم أن الدنيا مازالت بخير .. ولم يخطر على بالي .. بأني سأكون ضحية بين المسؤول عن المخزن وبين أمين الذمة السابق .. فقد كانوا قد زوروا عدة كتب وتلاعبوا بالذمة .. حتى أصبح مبلغ تعويض النواقص في ذلك الوقت يعادل (١٥٠٠) الف وخمسمائة دينار عراقي .. بما يعادل أكثر من( ٢٥ ) خمسة وعشرين راتب من رواتبي في حينها .. يقول إستاذي صالح سليمان .. بعد أن إكتشفت هذا التلاعب الكبير في الذمة .. في ذلك الوقت كانت النواقص قد حسبت على ذمتي .. ومن ضمن مسؤوليتي .. وأنا الذي يجب أن أُحاسب على هذا النقص .. فحاولت مع مسؤول المخزن .. البحث عن مخرج أو تعويض لهذه المواد .. لكنه تهرب و أخلى مسؤوليته من هذه المواد .. وأنكر علاقته أو معرفته بها .. ودخلت في ذلك الوقت أزمة سداد النقص .. وغرقت في دوامة القلق و الأرق و تأنيب الضمير لنفسي .. كوني وقعت بسهولة في هذا الفخ الخبيث .. وبعد أن سُدت كل طرق وأبواب تعويض سد هذا النقص في وجهي .. و وصلت مرحلة الإعياء و العجز .. لم يبقى أمامي غير أن ألتجيء الى باب الله سبحانه وتعالى فهو من خلقني .. وهو الذي يعرف سري و علانيتي .. فصدقت مع الله .. و عزمت على أن أطرق بابه .. و ألوذ بجنابه .. وأذهب مثل كل مرة الى إداء صلاة الجمعة في أحد مساجد بغداد .. ولكن هذه المرة بنية كشف الكربة و دفع الأذى و نصرتي كمظلوم .. و هناك أقدم عريضتي و مظلمتي لرب العباد .. وبالفعل حضرت خطبة الجمعة وصلاتها .. ثم رفعت حاجتي بأكف الضراعة و الإبتهال الى الله سبحانه وتعالى .. بالخشوع والدعاء .. و السجود والبكاء .. و نفسي تلبس ثوب الإنكسار و الفقر و الحاجة .. مع سمات الصفاء و النقاء و الرجاء .. ولم أرفع رأسي من السجود .. إلا بعد أن شعرت بأني أذوب شوقاً و حنان .. ورضى و إطمئنان .. وكأني أسبح في بحر من الأنوار الطاهرة .. و إشراقات من النفس الباهرة .. و في وسط هذا الإحساس الطيب العجيب .. رفعت رأسي من السجود .. و كأني لا أشعر بما حولي من الوجود .. فالسكينه و الهدوء و الوقار و الاطمئنان يجتاحني .. وكأني لست أنا من دخل ليصلي .. و إنسان أخر من سيخرج بعد الصلاة .. مضى الوقت دون أن أشعر .. وبقي عدد قليل من المصلين .. لا أهتم لأي أحد منهم .. و كأني قد أصبحت بمعية الله سبحانه وتعالى .. فالسعادة الروحية تتملكني من أعلى رأسي حتى أخمص قدمي .. إلا إني مررت في طريق خروجي .. برجل كان قد أسند رأسه و ظهره و قد إتكأ واقفاً على أخر عامود في حرم المسجد .. وهو يدعو في خشوع وهو مغمض العينين .. وكأنه يغط في نوم عميق .. وحينما إقتربت من أمامه فتح (عينه اليمنى فقط) و نظر لي بتمعن .. فنظرت اليه وركزت في (عينه) وأنا أقول في نفسي .. عجيب هذا الرجل .. هه ماله ينظر لي هكذا .. و بهذه الطريقة الغريبة .. لم أترك النظر الى (عينه) ولم يتركني هو .. حتى خرجت من حرم الجامع .. ولم أفكر في حينها بشيء .. غير أني قلت ربما شبه عَليَ .. بشخص يعرفه .. و في صباح يوم السبت وصلت الى محل عملي .. فكان في انتظاري مسؤول المخزن .. فقال لي ..أستاذ صالح أنت إبن أوادم و متربي .. و والله إحنا " تعدينا" عليك بنقص الذمة .. والله لا تستحق ذلك ولا نظن بك الإ الخير .. و أنا ضميري يعذبني(ويؤنبني ولم أرتاح لا بليل ولا بنهار ) .. إستاذي إن شاء الله الآن نذهب أنا و أنت الى مستودعات الوزارة الرئيسية .. ونقابل الإستاد ضياء مسؤول الذمة العام .. و إن شاء الله يكون موجود .. و يقبل أن يعوض لنا النقص .. يقول صالح سليمان .. عندما رأيت موقف "بشير" معي ..قلت الحمد لله هذه أول تباشير الفرج .. ومباشرةً ذهبت أنا وبشير .. ومعنا عجلة حمل كبيرة .. لغرض محاولة سد النواقص وتعويض المواد .. ووصلنا مخازن الوزارة .. وقال لي بشير أنا أعرف إستاذ ضياء .. إنسان طيب و رجل صاحب نخوة و حق و أخو " خيتو" .. و إن شاء الله يقبل يساعدنا .. (خلي أنا أدخل عليه وحدي لأن هو يعرفني .. وأحاول معه .. لعله يقبل يعوضنا النقص) .. بعد خمس دقائق خرج بشير وهو يهز رأسه بالرفض .. ولكنه يقول .. هو يريدك .. يجب أن تدخل أنت عليه لتقنعه .. يقول صالح سليمان .. دخلت على إستاذ ضياء .. و أنا ما زلت أشعر براحة بال و سكينة نفس و اطمئنان و رضا .. من نفحات دعاء يوم الجمعة .. فألقيت التحية و السلام .. على إستاذ ضياء .... فمن تظن كان إستاذ ضياء يا ولدي .. فقلت (الله أعلم) .. وقلت له مجاوباً .. من يكون إستاذ ضياء هذا يا أستاذي .. فقال لي .. كان من نظر لي بعين واحدة في الجامع .. فعندما رأيته إنبهرت و تعجبت و كبرت .. و عندما رأني ضحك بقهقهة و نهض وعانقني وحمدالله و هلل و كبر ..
نهاية الجزء ( ١ )