بقلم الدكتور محمد المعموري
عندما تشرق الشمس معلنة الصباح في صعيد مصر تتلألأ قطرات النيل مع شروق الشمس معلنة يوم جميل فتتراقص النباتات فرحا وترقص النخيل مستبشرة بيوم جديد ، فيحمل الفلاح فاسه متجها نحو حقله ليكون مع اشراقة الصباح بين ذرات التراب التي يتنفس منها عبق التاريخ ويتوسد ثراها عند تعبه فيمد جسده بامتداد ارضه فرحا بما وهبه له الله سبحانه وتعالى ، وتصعد الطيور منطلقة في السماء كأنها ظل يظل على من تمر عليه فينظر الفلاح شاكر رب الانام .
النيل والارض والفلاح حكاية صعيد مصر وان اصبحت اليوم بعض ارضه مدن وتلاشت من على حقوله نبتات الحياة الا ان الصعيد في مصر هو يعني الارض والنيل والفلاح، كنت مسافر في اخر رحلاتي فحكى لي رجل وقور كبير قصة امرأة زرعت في قلبي اثر كبير، فوجدتني اهمس في نفسي لكي تكون بطلة قصتي لمقالتي القادمة لما تحمله تلك القصة من قيم ومبادئ حتمت علي العروج عليها واكيد انا سأنقل ما سمعته ولكني لن اتمكن من نقل مأساة تلك المرأة وما مرت به من الم وحصره ولكني سأحاول .
من ارض الصعيد وفي ريفها ومن اصالتها ولدت بطلة قصتي في سوهاج لتكون ممن لهم الاثر الطيب و ممن بشرهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمزاحمته في الجنة بأذن الله :
( أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين ، وأشارَ بأصبُعَيْهِ يعني : السَّبَّابةَ والوسطى ) .
ولو تمعنا في آيات الله سبحانه وتعالى وما انزله بحق اليتيم لكانت بطلة قصتي تفخر بنفسها على صبرها وتضحيتها بشبابها وراحتها وسعادتها من اجل اسعاد ( ابنتها ) حتى لا تشعرها بانها يتيمة او ان تتزوج امها برجل غريب فيتخذها خادمة له او يجعل مساءها كصباحها او صباحها كمساءها ... مات زوجها بعد اشهر من زواجها وتركها حامل وهي في بداية العشرينات من عمرها، قررت مع نفسها انها وحيده وانها فقدت العالم بقدانها زوجها ولكنها فكرت ، نعم فكرت وايقنت ان من يتحرك بداخل احشائها (ولد او بنت) فهو او هي املها وامتداد لزوجها الحبيب ، فولدت بعد اشهر بنت اسمتها كما رغب ان يسميها ابيها قبل وفاته ولم ترغب تلك الام المفجوعة بشبابها والفاقدة لزوجها وحبيبها الذي كان يحلم معها في بيت واسرة واطفال يتربون في احضانهم ولكنها ارادة الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .
ابت الفاضلة ان لا تدع بنتها تعيش تحت كنف زوج امها فقررت ان تكون كافلة لها رغم " صغر سنها " وما يحيطون بها من اهل واقارب يحثونها على الزواج ، فتوقع الجميع انها ستضعف بعد عام او عامين ولكنها ابت الا ان تكون الام والاب والاخ والاخت لمن كانت تتحرك بأحشائها وتركها ابوها ليكون بذمة الله بعد ان تزوج امها لا شهر معدودة لم تكتمل السنه ليحتفلوا سويا بعيد زواجهم الاول ولكن كتب الله ليكون هذا الزوج الذي احبته في ذمت الله تاركا ورائه زوجه في احشائها جنين لا يعلم الا الله ما سيكون وما سيكتب لها القدر ...
ولم يكن همها وهي التي كانت مدللة امها وابيها انها ستتحمل مسؤولية زوجها بعد وفاته رحمه الله فكان هو الاخر يسعى جاهدا من اجل تكوين بيت واسرة كريمة واثناء تلك المسيرة كان لزوجها قروض وديون تحملت تلك الزوجة عبء سدادها لينام زوجها قرير العين في قبره تاركا ورائه الاخلاص والوفاء من زوجة تربت بالطيبة وتعلمت الاخلاص والوفاء من اهلها .
ولم يكن فقط هذا همها فكان همها الاكبر مع تربية بنتها كيف لها ان تراعي ام زوجها التي احبتها مثل امها وظلت تراعيها كانها امها .
وهل يعلم الانسان ما هو اليتيم وما اعد له الله من عناية ورحمة وكم اوصى الله عز وجل لتربية اليتيم والعناية به ولو تمعنا تلك الآيات لوجدنا ان من يرعى اليتم اعد الله له ما لا يتوقعه لان تربية اليتم لم تكن تربية طبيعية فاليتيم ينظر الى الاطفال من حوله فيرى ابائهم يحضنونهم ويعتنون بهم وهو يتحسر على لمسة يد اب قد توفاه الله بقدره ويحلم بان يضع راسه على كتف ابيه لينام مطمئنا بين ذراعيه ، او انه يستلم شهادته ناجحا فيرى الاطفال من حوله يهرعون ركضا نحو ابائهم وهو لا يجد من يقف لينتظره ويساله عن نتيجته واليتيم يحلم بهدية العيد من ابيه واليتيم يحلم بفرحته بين امه وابيه واليتيم يتلظى شوقا لا بيه واليتيم يسال امه صباحا ومساءا اين ابي فتكون الإجابة مسافر ويكبر ويطن اباه سيعود فيصعق ذات يوم بان اباه لن يعود .
كل هذا الالم تحملته بطلة قصتي وهي نراعي ( ابتها ) وتحنوا عليها منذ لحظة استقبالها للدنيا الى ان اصبحت اليوم بفضل الله ورعايته ثم بحرص امها شابة ذكية جميله يتمنى الناس طلتها ويعجب الناظر اذا نظر لاناقتها ... كانت الام لا تهتم لبسها فتكسوا ابتها بأحلى الملابس واجملها كانت تضحي من اجل ان تجعل ابنتها مكتفيه من أي شيء كانت تابي ان تجعل ابنتها بحاجة لشيء ولو قطعت نفسها ...
وتمر الايام فتجلس تلك المرأة التي خطت نجاح ذاتها في مستقبل ابتها لتحكي للأوراق حكايتها فتقول في همس وخوف انا الارملة التي لم ترى السعادة من زوجها الا اشهر ولدت من اسرة ريفية بسيطة كان عدد البنات مساويا لعدد الذكور وكانوا ثمانية يعيشون في كنف ام واب يصفهم المقربون كما يحسبهم البعيدين من اطيب الناس ، كانت طيبتهم ممتدة مع امتداد الارض وبعمق التاريخ في ارض الصعيد حيث النقاء والصدق والوفاء ، هناك تربت بطلة النجاح وترعرعت بين الاصول ومن الاصول واخذت من طيبة امها وابيها ما يمكنها من تجاوز عقدت الحاقدين وكلام المغرضين وكان همها فقط كيف تربي بنتها لتكون مثلا يقتدى به ..... عاشت الم الوحدة وتكبدت مرارة الغربة ونامت وهي تحلم بحياة طيبة لابنتها الوحيدة وهي ترى في عينيها مستقبلهما معا ... وكانت ام وصديقة واب واخ واخت لها ، لم تحرمها شيء ولن تحسسها بانها يتيمه فاستوعبتها وكانت لها ملاذا وامنا من زمان ماكر ومن وقت تقلبت به الظروف .
ولأننا مع قصة نجاح امرأة نذرت نفسها لابنتها اليتيمة الأجدر بنا ان نذكر انفسنا بآيات الله في اليتيم لنشد ازر هذه الام المكافحة المجاهدة وكل ام ضحت من اجل طفل او اطفال بعد فقد زوجها انهن امهات صالحات سيكونن بأذن الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنة الخلد لصبرهن
قال عز وجل: ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (البقرة الآية220)
وقد جعل الله تعالى الإحسان إلى اليتامى قربة من أعظم القربات ونوعا عظيما من البر، فقال:( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177)
عم فأهوال القيامة العظيمة وكرباتها الشديدة قد جعل الله لكافل اليتيم منها نجاة ومخرجا : (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ .أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ) (البلد:11- 15) .
أوصى الله تعالى بالإحسان إلى اليتيم الذي ترك له والده مالا برعاية هذا المال وتنميته وتثميره وعدم الاعتداء عليه بأي صورة من الصور ، فقال : (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) (الأنعام: من الآية152). وقال : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء:34).
ولا يمنع هذا ولي اليتيم إن كان فقيرا أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف لقوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (النساء:6).
فإن كفالة اليتيم طريق إلى الجنة قصير ، كما قال الله عز وجل: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً. وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً). (الإنسان:8-12(
اي كرامة واية رفعه تنتظرك اذا ما تمسكت بتعاليم رب العزة وانت تضحين بكل شيء من اجل اسعاد ابنتك التي هي اليوم فخر لأهلها بل عنوان نجاح يشار فيه اليك .