جدتي الأمية التي لا تعرف القراءة و الكتابة ..
(( يقول صديقي )) .. قبل خمسون عام أي في سنة ١٩٧١ كان عمري ٦ سنوات حيث كنت طفل صغير لا أعرف بعد معنى حقيقة الحياة والتعامل الإنساني فيها .. و بأن الحياة كلها عبارة عن (كلمة طيبة) تدخلك الجنة بصدق معناها .. أو (كلمة خبيثة) تدخلك النار بكذب مغزاها .. فقد كنت طفلاً صغيراً أتردد كثيراً على بيت جدي أبو أُمي في محلة العبدوخوب في الموصل القديمة .. وأذكر في احد أيام الصيف الحارة شعرت بالعطش فدخلت مطبخ جدتي لأخذ قدح لأشرب به الماء من الحِب الذي في الحوش .. فإخترت أجمل قدح من البوفيا .. فتعثرت فسقط من يدي .. و تفتت أمامي .. يا إلهي اغلى واهم قدح زجاجي كان في مطبخ جدتي من نوع سيت حجر الفيروز الغالي حيث يتكون السيت من قدح واحد و جرة ماء واحدة و صينية واحدة كلها زجاج فيروزي نادر .. كسرته بيدي .. كان غاية في الروعة و الجمال و الإتقان و غالي الثمن .. و اذكر في حينها خِفتُ جداً .. و حزنت كثيراً على ما فعلت و بدأت (أفكر بالطريقة) التي سأخبر بها جدتي عن كسر (قدح) السيت الفيروزي و الذي إشتراه جدي في حياته سنة ١٩٢٠ .. وبدون ان أجعلها تتأثر أو تنزعج مني .. وانا في ذلك العمر الصغير دخلت على جدتي بحذر و إستحياء وهي ترقد في غرفتها الفخمة النظيفة المهيبة في تلك الظهيرة الحارة وبيدها المسبحة ذات (١٠١) خرزة و هي تسبح لله .. فإستأذنت عليها .. فأذنت و بدأت تضحك و قالت لي ألا تريد ان تاخذ غفوة في هذه الظهيرة الحارة أَم تريد ان تلعب فقط .. فقلت لها ( نعم ياجدتي) سأغفو هنا قليلاً .. وبدأت اتلعثم و لا اعرف كيف أنطق الحروف .. فقالت لي خير إن شآء الله .. (ماذا فعلت) .. انت ما طبيعي .. ( خوما كن إعملت مكسورة) .. ولا تعرف كيف تحكيها .. فأردت ان أبدأ بداية جيدة بالدفاع عن نفسي أولاً .. ثم اعترف بجريمتي و كسري للقدح ثانياً .. فقالت لي .. يا إبني قبل ما تقول أي شيء ...كل شيء فدوتك .. وماكو داعي لتتلعثم .. فقط إصدقني القول ولا تكذب .. فإن من يعرف طريق الكذب في الصغر (يموت) عليهِ في الكبر .. تحدث ولا تكذب .. فإذا كذبت .. فلن أحبك بعد اليوم أبداً .. و سيكتب أسمك عند الله في سجل الكذابين .. و ( سينكث فمك دود يوم القيامة ) وسيأتون إليك الملائكة ( بحنطايتين أو شعيرايتين لتعقدها فلا تستطيع ) إياك و الكذب يا حبيبي .. فإذا صدقت سينجيك الله سبحانة وتعالى .. من كل مأزق و هم و غم و موقف صعب في حياتك .. وسيسجل إسمك في سجل الصادقين .. فقلت لها نعم يا جدتي .. لقد كسرت (قدح) سيت الفيروز الغالي .. والله غصباً عني و بدات أبكي .. فقالت لي .. بس بس يا حبيبي فدوتك و عليش عتبكي يا إبني .. و هذا الكلاص عمرهُ إنتهى .. مات والله يرحمو .. عاش معنا خمسين سنة إمدلل في (الجامخانة - ال بوفيل) .. حتى إننا لم نتعبه و نستخدمه إلا في المناسبات الخاصة جداً .. وجاء اجله اليوم فمات .. ( عاش أكثر من أصحابه اللذين إشتروه ) .. المهم أنك لم تجرح يدك .. فقلت لها( لا ) .. فقالت لي وهل جمعت شظايا فُتاته .. فقلت لها نعم .. و أنا ما زلت أبكي .. فقلت لها و أنا أشهق بقي فقط الفتات الناعم الذي لم تراه عيني .. فقالت لي أحسنت يا ولدي .. فرحي بصدقك .. يفوق كل مال الدنيا عندي .. انا أحبك الأن أكثر من قبل.. لأنك صادق .. و أعترفت لي ولم تسكت لتخبيء عني ما فعلت .. إياك و الكذب .. إياك و الكذب يا حبيبي .. فالكاذب اول ما يكذب .. يكذب على نفسه اولاً .. ثم على الناس ثانياً .. فإنك بالكذب تستطيع ان تخدع الناس كلهم و يصدقوا كذبتك .. لكنك لن تستطيع ان تخدع الله .. سبحانه و تعالى .. فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .. و سيأتي اليوم الذي يفضحك فيه .. فتسقط في عيون الناس أولاً ثم في عين نفسك ثانياً .. منذ تلك الحادثة و أنا بعد ما زلت طفل صغير .. تعلمت الدرس و وعيته جيداً .. فأخاف من الكذب و قول الزور .. كما اخاف من الله سبحانه وتعالى من ان أكذب عليه فيفضحني بأني كاذب .. و توفيت جدتي في سنة ١٩٨٣ .. وانا ما زلت بعد أذكر كل حرف وكل كلمة غرستها في قلبي .. و سقتها بحنان حكمتها العفوية الصادقة .. لتنبت في قلبي غابات عملاقة من الحب و الصدق و الأمل و الحنان .. ولكن عجبي .. الآن .. على من يتباهى و يتشدق و يفتخر بكذبه .. وكأنه قد حقق إنجاز او قد ضمن الصدارة في قلوب الناس و رفع كأس البطولة في الكذب على أقرانهِ ... و كأنه قد فاز بالرضا و القبول من الله سبحانه وتعالى .. و آآآه ما أكثرهم .. تعرف أنه يكذب .. و هو يقسم لك بالله العظيم إنه صادق .. وعيونه تستهزيء به من ليونة لسانه في كذبه .. فهل بهذه السهولة تتغير القيم .. و تستحل الرذائل اماكنها بدل الفضائل لتغيب عن واقعنا المرير .. اليوم .. مئات المدارس لا تعرف كيف تعالج الكذب و المكر والخديعة في قلوب الصغار .. وجدتي الأمية الطيبة العجوز بكلماتها البسيطة دقت جميع (أسس و أركان الصدق) في حياتي بحكمتها العفوية ..