المصدر : جريدة الأهرام
د. محمد السعيد إدريس
mohamed.alsaid.idries@gmail.com
شئ قليل من استعادة الذاكرة ربما يساهم فى الإجابة على السؤال المهم والمحورى الذى فرض نفسه بقوة عقب توقف حرب الـ 11 يوماً فى غزة وهو: كيف ستسير الأوضاع، وبالتحديد أوضاع الصراع الفلسطينى – الإسرائيلى بعد "الهدنة الاضطرارية" لهذه الحرب: هل إلى تسوية؟ وإذا كان هذا صحيحاً فما هى أهم معالم مثل هذه التسوية؟ أم إلى مواجهة أخرى جديدة وجولة أعنف من جولات الصراع، قد تأخذنا إلى مآل آخر بعيداً عن خيار مثل تلك التسويات ، مآل أخذت ملامحه تتشكل منذ أن أخذت المقاومة الفلسطينية فى قطاع غزة، وللمرة الأولى، مبادرة الطلقة الأولى فى هذه الحرب، ليس هذا فقط بل كانت تلك الطلقة صواريخ قوية وصل مداها إلى أكثر من 250 كيلو متراً وصلت متزامنة إلى أهم رمزين يتباهى بهما كيان الاحتلال الإسرائيلى: القدس المحتلة وتل أبيب الكبرى، ومنذ أن نجحت المقاومة فى فرض شروطها على الهدنة المؤقتة ووقف إطلاق النار برفضها الرغبة الإسرائيلية فى القيام بوقف لإطلاق النار من طرف واحد إسرائيلى لتأكيد أن إسرائيل، وليس غيرها، من بدأ الحرب ومن بيده قرار إنهائها. فقد أصرت المقاومة على الوقف المتزامن لإطلاق النار، وتأكيدها لضرورة امتلاك حق الضربة الأخيرة وإعلانها شعار "إن عدتم عدنا" فى إشارة واضحة تقول أن المقاومة مستعدة لمواصلة الحرب فى حين كانت إسرائيل وواشنطن حريصتان بدأب على وقفها.
التطورات المهمة التى أخذت تحدث منذ توقف هذه الحرب على الصعيدين الإسرائيلى والفلسطينى وعلى الأصعدة الدولية والإقليمية والعربية تقول واقع ما قبل اندلاع هذه الحرب شئ وما بعدها أضحى شئ آخر مختلف تماماً.
هذه التطورات تقدم لنا مؤشرات مهمة على أن نجاحات المقاومة فى هذه الحرب لن تذهب سدى، وأن أى محاولة لتفريغ الانتصار من مضامينه والعودة مجدداً إلى ذلك المسار المشين لمفاوضات سلمية عبثية يكون فى مقدورها إحداث انكسارة جديدة فى النضال الوطنى الفلسطينى لن تنجح ولن تفيد فى شئ لأسباب كثيرة يمكننا إدراكها على ثلاثة مستويات من الصراع: على المستوى الإسرائيلى وعلى المستوى الفلسطينى ، وعلى المستوى الخارجى الدولى والإقليمى والعربى.
على المستوى الإسرائيلى يمكننا القول أن أى مقارنة منصفة بين الموقف الإسرائيلى من الصراع فى فلسطين قبل عام وربما قبل أشهر قليلة من اندلاع الحرب الأخيرة وبين هذا الموقف بعدها تقول بوضوح شديد أن إسرائيل باتت مضطرة لدفع فاتورة غرور القوة الكاذب وتجاهلها لمصادر قوة الطرف الآخر الفلسطينى وبالذات "قوة الحق" وإرادة الدفاع عنه، النابعة من إدراك أصيل أن الحقوق المهدرة للشعوب لا تسقط بالتقادم.
وصل غرور القوة الإسرائيلى والاستهانة بمصادر قوة الطرف الآخر لدرجة أن الأحزاب الإسرائيلية جميعها التى خاضت الانتخابات العامة الأخيرة فى كيان الاحتلال فى مارس الماضى تجاهلت تماماً أى ذكر للقضية الفلسطينية، وكأنها قد تحولت إلى مجرد فكرة غير مرغوب فيها.
غرور القوة تفاقم فى ظل إدارة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب واعترافه بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ودعمه لسياسة التوسع الاستيطانى ، كل ذلك حفز الإسرائيليين للتمادى فى الأخذ بـ "قانون القومية" الذى استصدروه من الكنيست لجعل فلسطين كلها وطناً خالصاً لليهود دون غيرهم، وضربوا عرض الحائط بكل قرارات الشرعية الدولية بما فيها خيار "حل الدولتين" ورفضوا بالمطلق تقديم أى تنازلات للفلسطينيين استناداً إلى تهافت عربى بالتطبيع معهم، تهافت وصل إلى درجة التعامل مع إسرائيل باعتبارها "موازن إقليمى" موثوق به ضد إيران. هذا الغرور وصل ذروته مع التوجه الإسرائيلى لتفريغ القدس الشرقية المحتلة من مواطنيها العرب وطردهم سواء من حى الشيخ جراح أو من حى سلوان أو غيرهما لفرض مشروع تهويد القدس كاملاً ثم التوجه الاستفزازى للسيطرة على المسجد الأقصى.
لم يحسب الإسرائيليون أى حساب لرد فعل فلسطينى أو عربى أو إسلامى أو حتى عالمى للتوقف عن مخطط تفريغ القدس من شعبها والسيطرة على المسجد الأقصى، وغاب عن أذهانهم تماماً أى حساب لرد فعل عسكرى محتمل من قطاع غزة يمكن أن يكون بمقدوره دحر سياسة غرور القوة، ولم يأبه الإسرائيليون بالصواريخ التى ضربت القدس وتل أبيب واعتبروها استثناء، وأنها كل ما لدى المقاومة.
حرب الـ 11 يوماً أسقطت كل الرهانات الإسرائيلية، وفرضت المقاومة معادلاً قوياً للقوة، وفرضت قواعد جديدة للاشتباك وفق ما أكده زعيم "حماس" يحيى السنوار أن ما حدث كان "مجرد بروفة.. لحرب أهم وأقوى تشارك فيها جبهات كثيرة فى انتظار تلك اللحظة" .
ما يحدث الآن داخل إسرائيل من محاسبات وصراعات على التقصير والفشل العسكرى، واحتمالات إسقاط حكم نتنياهو، وتفجر الغضب لدى الشعب الفلسطينى داخل إسرائيل وتوحده النضالى مع كل الشعب الفلسطينى فى الضفة والشتات الفلسطينى دفاعاً عن القدس والأقصى وقطاع غزة أربك الإسرائيليين ، وطرح بقوة سؤال: إلى أين تتجه إسرائيل؟
التحولات الأخرى على المستوى الفلسطينى وعلى المستويات الدولية والأقليمية والعربية تسير هى الأخرى فى اتجاه حدوث تحول مهم، حتى داخل الولايات المتحدة تؤكد سقوط السطوة الإسرائيلية، وتؤكد من ناحية أن المقاومة أضحت خياراً وطنياً فلسطينياً لا رجعة عنه فى وقت تتداعى فيه مكانة السلطة الفلسطينية، وتؤكد من ناحية أخرى أن القدس والأقصى أضحت عنواناً للصراع الفلسطينى- الإسرائيلى، وامتدت لتكون عنواناً لصراع أطراف أخرى مقاومة ضد إسرائيل، أما التحول فى الرأى العام العالمى والعربى فأضحى يشكل أهم عقبات المشروع الإسرائيلى فى ظل تحولات جوهرية أخذت تتهم إسرائيل بالتحول إلى "دولة فصل عنصرى" على نحو ما ورد على لسان وزير الخارجية الفرنسى، وتبرؤ الكثير من أهم الصحف العالمية من دعمها لإسرائيل ونشرها صور الشهداء من الأطفال ضحايا العدوانية الإسرائيلية.
تحولات كلها تؤكد حقيقتين؛ الأولى أن إسرائيل قبل الحرب الأخيرة لم تكن أبداً لديها نية لأى انسحاب أو أى سلام، والثانية أن واقع ما بعد تلك الحرب لم يعد يسمح لإسرائيل بالتمادى فى هذه السياسة، بل أنها تؤكد أن زمن دفع أثمان غرور القوة قد آن أوانه وأنه سيفرض نفسه حتماً على الخيارات المستقبلية لحل الصراع .