خميس بن عبيد القطيطي
http://alwatan.com/details/424726
ليس إفراطا في التفاؤل أو مجرد أمنيات، بل هي حقائق التاريخ التي لم تتجاوزها الطبيعة والأمثلة كثيرة. اليوم يتشكل في فلسطين جيل جديد يحمل على عاتقه مشروع التحرير بعد جيل الانتداب الذي قاوم وقدم قوافل من الشهداء في ثورات مجيدة، وجيل الاحتلال الذي كانت أبرز ملامحه الحروب العربية الإسرائيلية، ثم أعقبه جيل ثالث عاش في ظلمات اتفاقيات استسلام مؤلمة مع العدو بدءا من عام ١٩٧٨م وتجاوز خلالها العدو مداه وعدوانه على أبناء الشعب الفلسطيني، وتجردت القضية من الدعم العربي الرسمي، وكأن الأمة بدأت تفقد الأمل في الحلم رغم بوارق الأمل المتصاعدة من سواعد أطفال الحجارة وفوهات البنادق والعمليات الاستشهادية التي لم تجد سبيلا للحياة إلا على أشلاء الكرامة والشرف، وفي ظروف سياسية عصيبة وحالة عربية متردية وقد ظن العدو أنه سيحقق مشاريعه الكبرى، لكن المقاومة تستكمل مشروعها المقدس على طريق التحرير وتطوير قدراتها الصاروخية، مُرسِّخة قواعد جديدة للصراع، مُتوكِّلة على الله، مُتمسِّكة بمبادئ القضية، فما أُخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة.
اليوم بحمد الله تمتلك المقاومة العظيمة خاصية الردع الصاروخي بعد نضال وسباق مع الزمن في تطوير تلك القدرات وسخرت من أجلها حياتها، فكانت غزة هاشم على موعد مع التاريخ والكرامة والأمجاد فدفعت من دماء أبنائها لرسم طريق المستقبل كقاعدة إسناد قريب للنضال الفلسطيني في الضفة الغربية بقدسها ومقدساتها، وأراضي ما يسمَّى الـ٤٨ الذين أثبتوا أيضا أن الدم الفلسطيني الذي يجري في عروقهم يحمل نفس الصفات الوراثية لدماء القسام والرعيل الأول من القادة والمناضلين، فلاحت بوارق الأمل مع كل اعتداء إسرائيلي منذ ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٠م؛ أي منذ اندلاع انتفاضة الأقصى التي جاءت بعد انتفاضة الحجارة، فأراد الله أن يرافق حالة التراجع العربي حالة من التقدم في ميادين العزة والشرف والكرامة على الأرض الفلسطينية. وما أجدر هذا الشعب بالنضال والرباط في سبيل الله دفاعا عن القدس والمقدسات، ورغم المجازر العنيفة التي نفذتها آلة البطش الصهيونية لكبح جماع تلك الانتفاضات الفلسطينية، إلا أن النتائج جاءت مبشرة وحققت فيها انتفاضة الأقصى لاحقا تحرير هذا القطاع المقاوم والانسحاب الإسرائيلي منه، وقد سبقه الانسحاب من جنوب لبنان الذي تحقق بفعل ضربات المقاومة قبل ذلك، فأصبح العدو الإسرائيلي بين نارين إحداهما في الشمال الفلسطيني متمثلا في المقاومة الإسلامية بجنوب لبنان التي حاول العدو وأدها في عدوان صيف ٢٠٠٦م فعاد خائبا لم ينل سوى الخزي والعار، وجاءت نتائجه العملية لصالح المقاومة، وخرجت المقاومة أقوى مما كانت، فكان أول الشؤم على كيان الاحتلال الإسرائيلي وشوكة وقعت على رأسه، وبرزت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة لتؤكد أن المشروع واحد وأن المصير واحد، وخرجت من عدوان ٢٠٠٨ ـ ٢٠٠٩م بنتائج أفضل، فسلكت طريق التحرير بتطوير قدراتها العسكرية لتصبح اليوم أقوى وأخطر قوة تهدد كيان الاحتلال الإسرائيلي من جهة الجنوب، وهي اليوم مستعدة لكل الاحتمالات والمغامرات، هكذا كان المسلمون بمعركة بدر في رمضان السنة الثانية للهجرة، وهكذا قدر الله أن تكون معركة سيف القدس في رمضان هذا العام ١٤٤٢ للهجرة/ ٢٠٢١م، وقد صدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم عندما رفع يده مخاطبا ربه: “(والله إِنَّكَ إِنْ تُهْلكْ هَذِهِ الْعِصَابَة فَلَنْ تَعْبُدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا)، والأمة اليوم ترفع أكفها متضرعين إليك يا الله بأن تنصر هذه العصابة من المجاهدين في سبيلك في عموم فلسطين. القدس الشريف وغزة الصامدة وفي جميع مدن الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م الذين يقدمون اليوم ملحمة تاريخية عظيمة من أجل تحرير فلسطين بقدسها وأقداسها أرض المحشر والمنشر الأرض التي سار عليها أنبياؤك الكرام وأنت الله سبحانك على كل شيء قدير.
اليوم يضيء هذا الجيل بوارق الأمل ويصنع طريق المستقبل لمشروع التحرير العظيم الذي ارتبطت به الدماء الفلسطينية، وعمدت على أشلاء أبناء هذا الشعب المرابط الجبار، وما تمارسه “إسرائيل” من همجية وتجاوزات لا إنسانية استهدف الحجر والبشر وقتل المدنيين بأبشع الصور إلا إيذان بأن الوعد الإلهي قد اقترب، قال تعالى: “لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ” واللعن هنا يعبِّر عن سخط الله، أما الوعد الرباني بالزوال فقد اتفقت فيه مختلف الكتب السماوية محذرة هذه الفئة الباغية التي أنقذها الله من ظلم فرعون قبل ثلاثة آلاف سنة فعاثوا فسادا في الأرض فتحقق وعد الله الأول فيهم، قال سبحانه: “وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوًّا كَبِيرًا(4) فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مّفْعُولًا (5) ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7) عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) {الإسراء 4-8}. هذه الحقائق الربانية واقعة لا محالة، وقد اقترب الوعد الإلهي الذي ذكره الله في سورة الإسراء، وبوارق الأمل لاحت ولله الحمد، حيث يرسم أبناء فلسطين اليوم طريق التحرير ويزيلون الغبار والوهن عن كاهل هذه الأمة متمسكين بأبجديات التحرير، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عندما نشاهد الطفل الفلسطيني يقف أمام دبابات الاحتلال الإسرائيلي رافعا علم بلاده يلمع من عينيه شعاع الأمل، وعندما تقف الطفلة الفلسطينية أمام الجرافة الإسرائيلية غير عابئة بالخطر تذود عن منزل ذويها وتصرخ في وجْه جنود الاحتلال الإسرائيلي، وعندما تقوم طفلة مثل عهد التميمي بصفع ضابط من جيش الاحتلال ويسألها القاضي: كيف ضربتِ الضابط؟ ترد بمنتهى الثقة: أطلق هذه الأغلال من يدي وسأعلمك كيف ضربته. الله أكبر لهذه البسالة والعزة والصمود، الله أكبر وقد أراد الله أن يقترب وعده الحق على يد هذا الجيل من الأطفال من أبناء فلسطين، لم ينسوا حلمهم الأول وأعادوا مشروع التحرير إلى الواجهة بعد غياب طويل، اليوم لا نتحدث عن أمنيات بل نتحدث عن وقائع على الأرض بالدقة في الزمان والمكان وحسبما تقرره المقاومة الفلسطينية. وكما قال القائد القسامي محمد الضيف أبو خالد الذي هدد “إسرائيل” بدفع ثمن غالٍ إذا لم تتوقَّف عن أعمالها العُدوانية في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة، وقد صدق الوعد فلله دره من مجاهد يقدم هو ورفاقه إحدى ملاحم التحرير.
الأمة العربية والإسلامية اليوم تشارك في هذه الهبة العظيمة، مستبشرة بحلم التحرير وقد شفى الله صدور قوم مؤمنين بما تحقق في هذه الانتفاضة الفلسطينية الباسلة التي نفضت غبار أوسلو ومتشابهاتها لتعلنها صريحة أن زمانها قد ولَّى وما بعد هذه الانتفاضة ليس كما قبلها، ولا يمكن لمشروع التحرير أن يتقدم قيد أنملة طوال سنوات المفاوضات المذلة وبعد ثلاثة عقود من هذه المفاوضات العبثية إذا اعتبرنا البداية منذ مدريد عام ١٩٩١م، وبالمقابل فإن إرادة التحرير اليوم تتشكل في غزة هاشم وعموم فلسطين في معادلة واحدة، وهي ذات المعادلة التي حققها رجال المقاومة اللبنانية، اليوم يلتقي مشروع التحرير ما بين بيروت والقدس وغزة لتمتد خطوطه بمختلف الاتجاهات العربية والإسلامية، وليؤكد أن واقع التحرير يتشكل بصناعة فلسطينية، وأن المستقبل ترسمه قوى المقاومة فأصبحت الرهان الحقيقي والخيار الاستراتيجي للأمة.
الخطاب الرباني إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، ما زال باقيا إن كانت إسرائيل تستجيب لنداءات الرب، لكنها إن لم تستجب قبل ثلاثة آلاف سنة مع سيدنا موسى عليه السلام فكيف ستستجيب اليوم؟!! وعلى الاحتلال أن يستعد للزوال فالعجلة بدأت بالدوران ولن تتوقف، فمنذ انتفاضة الأقصى ٢٠٠٠م مرورا بجميع الحروب حتى اليوم لم يجنِ كيان الاحتلال الإسرائيلي إلا الفشل، أما النتائج العملية والتقدم فقد سجل لصالح المقاومة، وطريق التحرير بدأ منذ ذلك التاريخ ويتجلى أكثر كما تقادم الزمن، ليصل اليوم إلى نقطة الردع الصاروخي والطائرات المسيَّرة، والقدرة التي تمكنه من فرض إرادته، ومقابل كل عدوان على قطاع غزة يستقبل كيان الاحتلال الإسرائيلي صواريخ الغضب، وكما أنشدت الفنانة اللبنانية فيروز: “الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان.. الغضب الساطع آت سأمر على الأحزان.. من كل طريق آت بجياد الرهبة آت.. وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية.. وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية..”. نعم هذا الإيمان يعتمر القلوب ويثق بالنصر القادم.
ما بعد سيف القدس ليس كما قبلها، ولن نقول ستقرر المقاومة بل قررت المقاومة وفقا لقواعد وقف إطلاق النار بعد انجلاء غبار المعركة، ومن يقول إن الحرب سقط فيها عدد كبير من الشهداء بين صفوف أبناء فلسطين، ويعتقد أن الحسابات هكذا، فهو لا يفقه حقيقة هذا المشروع الذي يتبناه هذا الشعب العظيم، فهذا الشعب بأكمله بين نصر واستشهاد، وطريق النصر يمهد من خلال قوافل الشهداء، وهكذا هو قانون الطبيعة.
عندما وجهت المقاومة إنذارها للاحتلال بفك الحصار عن القدس وحي الشيخ جراح كانت قدرت موقفها العسكري، فجاءت رسالتها دقيقة، فهي تعلم أن مخزونها الصاروخي لا ينضب والتصنيع قائم على قدم وساق وهي مستعدة لكل الظروف حتى آخر قطرة من دماء شعبها ذلك لأن مشروعها عظيم ويستحق تلك التضحيات، وبالتالي فإن القرار اليوم هو نفسه عندما أطلق أول صاروخ، والقرار هو رفع الحصار عن المسجد الأقصى ومنح الفلسطينيين حرية ممارسة العبادة والإدارة للقدس والمقدسات، وعدم التعرض لأبناء القدس وفلسطينيي ٤٨، ووقف كل عمليات التهويد والحفريات تحت المسجد الأقصى، ومنع تهجير السكان أو الاستيلاء على مساكنهم في المدينة المقدسة البلدة القديمة وحي الشيخ جراح وحي سلوان وبقية الأحياء العربية في القدس الشرقية، ووقف العدوان على غزة كشروط أولية لوقف إطلاق الصواريخ، تتبعها هدنة موقوتة تقوم على جدول زمني يبدأ معها فك الحصار عن قطاع غزة، وتوفير سبل العيش الكريم لأبناء الشعب الفلسطيني عامة في الضفة والقطاع، ومنح قطاع غزة السيطرة على كل المعابر وتوفير مطار دولي وميناء من قبل الدول الداعمة، والسيطرة على المياه المحلية والدولية، والربط البري بين غزة والضفة عبر طريق بري يسمح بالتنقل والتواصل بين أبناء الشعب الفلسطيني في جميع مدن فلسطين، والتأكيد على حق إقامة الدولة الفلسطينية عاصمتها القدس، وإيجاد حلول ناجعة في القضايا الأخرى منها عودة اللاجئين ووضع القدس والمقدسات وفتحها بشكل دائم أمام أبناء الشعب الفلسطيني، والسيطرة على معابر الدولة الفلسطينية، والتأكيد على تنفيذ قرار مجلس الأمن ٢٤٢ بالانسحاب إلى حدود الخامس من يونيو 1967م، وإزالة المستوطنات المستحدثة خلف الخط الفاصل، وإعادة ملف الجدار إلى محكمة العدل الدولية، وإطلاق جميع المعتقلين، ومنح أبناء الشعب الفلسطيني حقوقهم كاملة، وهي حقوق الشعب الفلسطيني إن كانت هناك رغبة حقيقية نحو السلام ووقف حقيقي لإطلاق النار، إن كان كيان الاحتلال الإسرائيلي ينزع نحو السلام فعليا، أما عدم تحقيق هذه المطالب المشروعة فيُعد سلاما ناقصا، نتيجتها خوض حرب استنزاف طويلة بين الطرفين قد تستمر إلى ما لا نهاية، وستكون نتائجها كارثية على كيان الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فإن هذه الحقوق من البديهي أنها الطريق الوحيد لضمان الأمن والسلام في فلسطين، لأن الخط البياني للمقاومة الفلسطينية يتصاعد، ولكن التكلفة الأخطر على كيان الاحتلال الإسرائيلي في المستقبل لن تقف عند هذه النقاط بل ستتجاوزها نحو التحرير الكامل لفلسطين التاريخية، وهو ما سيحدث بعون الله وقد أكدتها تجارب التاريخ والدلائل القرآنية أيضا.
khamisalqutaiti@gmail.com