عبد العزيز بدر القطان*
نزل القرآن الكريم بلغة العرب، ولسانهم وصوّر بأدق الصور وأرقاها من بيان وبلاغة وفصاحة تتبع هذه الصور بما فيها من بيان وإعجاز، علماء التفسير من عصر إلى عصر، وخرجت مدارس رائدة في علوم التفسير مثل المدرسة البيانية والمدرسة الأدبية وغير ذلك.
لقد كان الإصلاح الديني مدخلاً لنهوض والتجديد الحضاري، إصلاح الجوانب الفكرية والثقافية والسلوكية والممارسات التعبدية، والجوانب المؤسسية، وما يرتبط بها من وضعية الرموز الدينية في المجال العام، وموقف المجتمع الديني من القضايا العامة، ومن ثم فإصلاح المجال الديني مجال وميدان واسع والعملية ليست فجائية أو فردية، ولكنها عملية تراكمية ومؤسسية.
ومن مدارس علم التفسير، مدرسة الإمام محمد عبده، وكان من أهداف الإمام محمد عبده (1849 ـ 1905) تنقية تفسير القرآن مما علق به من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة والخرافات والاستطرادات النحوية ونكت المعاني ومصطلحات البيان وجدل المتكلمين وتخريجات الأصوليين واستنباطات الفقهاء المقلدين وتأويلات المتصوفين وتعصب الفرق وكثرة الروايات والعلوم الرياضية والطبيعية، ولم يكن تطهير التفاسير القديمة من هذا أمراً ميسوراً فهو تراث ضخم يحتاج تجريده منها إلى إمكانات واسعة من أموال وعلماء وزمن وذلك عسير فلهذا رأى أن يبقى على هذا التراث كما هو لما فيه من نفائس وأن يضع نموذجاً للتفسير يحتذيه معاصروه ومن بعدهم.
وقد كانت طريقته في الدرس التوسع فيما أغفله أو قصر فيه المفسرون واختصار ما برزوا فيه. والروايات التي لا تدل عليها ولا تتوقف على فهمها الآيات ويتوكأ في ذلك على عبارة (تفسير الجلالين) فكان يقرأ عبارته فينقدها أو يقرها ثم يتكلم بما يفتح الله عليه، فلقد دعا الإمام في مدرسته التفسيرية إلى التأدب مع الله تبارك وتعالى، وعدم زج آياته الكريمة في نظريات لم تتحقق بعد، حيث قال: (فالقرآن أرفع من يعارض العلم)، يُعدّ الشيخ محمد عبده واحداً من أبرز المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، كما شارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.
ودرس الإمام عبده المنهج التفسيري ست سنوات في الأزهر الشريف، وتميز بأنه اعتمد وانطلق فيه من العقل في فهم مراد الله تعالى، وأيضاً، محاولة الجمع بين الإسلام و المدنية الغربية، أو معايير الجديدة للحياة، إذ كان يسعى ليحقق الإصلاح الأخلاقي، من خلال الإصلاح الديني، فقد كان يركّز كثيراً على الأخلاق ويهتم بها، وإعطاء الأولوية للأخلاق، والهدف من تفسيره كان التأكيد على جانب الهداية والإرشاد والأخلاق القرآنية، والتي ترتكز عليها سعادة البشر في الدنيا والآخرة، يقول الإمام عبده في هذا الشأن: (إنّ الله سبحانه لا يسأل يوم القيامة ماذا قال الناس، أو ماذا سمعوا، بل يسألنا ماذا استوعبنا من كتابه، وماذا طبقنا من دساتيره، ومن هنا فإن تفسيراً يجمع من هنا وهناك، ربما يساهم في إبعاد المؤمنين عن الصراط المستقيم) وكان تفسيره المسمى بـ "تفسير المنار" هو المنارة الحقيقية لنهجه، سعى فيه لتأكيد الرسالة العالمية للقرآن والمنسجمة مع التكافل والرقي. فمدرسة عبده تبدأ بالأصل القائل بأن الإسلام دين عالمي، وهو لجميع الشعوب والأمم، في كلّ زمان ومكان أياً كان مستواها، وتفسيره يؤكّد على الجانب المعنوي المؤدّي لخدمة الناس، وتهذيب عقائد المسلمين بعامتهم وعلمائهم ومتكلميهم.
وذكر الإمام في مقدمة تفسيره عن هداية القرآن ووجوب الإِصلاح في المجتمع عن طريق القرآن ويقول: (أَيها المسلمون إنّ الله تعالى أنزل عليكم كتابه هدى ونوراً، ليعلمكم الكتاب والحكمة ويزكّيكم، ويعدّكم لما يعدكم به من سعادتي الدّنيا والآخرة، ولم ينزله قانوناً دُنيويّاً جافّاً كقوانين الحكّام، ولا كتاباً طبّيّا لمداواة الأجسام، ولا تاريخاً بشريّاً لبيان الأَحداث والوقَائع، ولا سفراً فنّياً لوجوه الكسب والمنافع، فَإنّ كل ذلك مما جعله تعالى باستطاعتكم، لا يتوقّف على وحيٍ من ربّكم، وهذا بعض مما وَصف الله تعالى به كتابه في محكم آياته تدبّرها سلفكم الصالح واهتدوا بها، فأنجز لهم ما وعدهم من سعادة الدّنيا قبل سعادة الآخرة).
الإمام عبده كان ممن يفهمون القرآن جيداً ويتفقَه فيه وكان نصب عينه ووجهة قلبه في تلاوته في الصلاة وفي غير الصلاة ما بيَنه اللهُ تعالَى فيه من موضوع تنزيله، وفائدة ترتيله، وحكمة تدبره، من علم ونور، وهدى ورحمة، وموعظة وعبرة، وخشوع وخشية، وسنن في العالم مطردة. فتلك غاية إِنذاره وتبشيره، ويلزمها عقلاً وفطرة تقوى الله تعالَى بترك ما نهى عنه، وفعل ما أَمر به بقدر الاستطاعة، فَإنه: (هدى للْمتّقين)، ولكن هنا يجب التنبه لنقطة غاية في الأهمية وأن بعض المفسرين في العصر الحديث، أشغلوا قرّائهم عن المقاصد العالية للتفسير، والهِداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإِعراب وقواعد النَّحو، ونكَت المعاني ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين، وتخريجات الأُصوليِّين، و استنباطات الفقهاء المقَلِّدين، وتأويلات المتصوِّفين، وتعَصّب الفرقِ والمذاهب بعضها على بعض، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات، وما مزجت به من خرافات الإِسرائيلِيّات.
وبالتالي أبدع الإمام المجدد في نقد التفاسير المتقدمة، وناقشها لبيان الحجة والدليل، مثل التفاسير الجامدة والفاقدة للروح بحيث تبعد الإنسان عن الله تعالى وكتابه، وهذه التفاسير تهدف إلى مجرد تحليل الألفاظ وإعراب الجمل وبيان بعض الدقائق الأدبية واللغوية، ومثل هذه التفاسير لا يمكن في الحقيقة إعتبارها تفسيراً، بل هي عبارة عن نوع من التمارين في فنون البلاغة والنحو وما شابه ذلك، ولكن كان ممن يعنون ويهتمون بالتفاسير التي تتناول كلام الله سبحانه وتعالى وتقوم بشرح حكمة تشريع الأحكام والعقائد، بشكل يجذب القلوب، ثم يقول محمد عبده إن هذا هو الأسلوب الذي يسعى إلى اتباعه في هذا التفسير، يقول الإمام: (القرآن كَلام سماوي تنزّل من حضرة الربوبية الَتي لا يكتنه كنهها علَى قلب أَكمل الأنبِياء. وهو يشتمل علَى معارف عالية، ومطالب سامية، لا يشرف عليها إِلا أَصحاب النفوس الزاكية، والعقول الصافية، وإن الطالب له يجد أمامه من الهيبة والجلال الفائضين من حضرة الكمال ما يأخذ بتلبيبه، ويكاد يحول دون مطلوبه، ولكن الله تعالى خفَف علينا الأمر بأن أمرنا بالفهم والتعقل لكلامه؛ لأنه إِنما أَنزل الكتاب نوراً وهدى، مبيّناً للناس شرائعه وأحكامه، ولا يكون كذلك إلا إذا كانوا يفهمونه).
ويكمل إمام المجددين بالقول: (والتفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إِلَى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، فإِن هذَا هو المقصد الأعلَى منه، وما وراء هذَا من المباحث تابع له وأداة أَو وسيلة لتحصيله)، وتأكد لهذه المسألة في آثار السيد جمال الدين فنجد المقولة ذاتها: "القرآن وحده سبب الهداية والعمدة في الدعاية أمّا ما تراكم عليه وتجمّع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظريّاتهم فينبغي أن لا نعوّل عليه"، وقال الذهبي عن الإمام محمد عبده وتفسيره: (كان الأستاذ الإمام، هو الذي قام وحده من بين رجال الأزهر بالدعوة إلى التجديد، والتحرر من قيود التقليد، فاستعمل عقله الحر في كتاباته وبحوثه، ولم يجر على ما جمد عليه غيره من أفكار المتقدمين وأقوال السابقين، فكان له من وراء ذلك آراء وأفكار خالف بها من سبقه، فاغضب عليه الكثير من أهل العلم، وجمعت حوله قلوب مريديه والمجبين به. هذه الحرية العقلية، وهذه الثورة على القديم، كان لهما أثر بالغ في المنهج الذي نهجه الشيخ لنفسه وسار عليه في تفسيره".
من هنا، إن التفسير الحديث يعنى بالاهتمام والدفاع عن العقل لمواجهة الخرافات والجمود الفكري، وفتح باب الاجتهاد خاصة فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية التي اهتم بها الإمام كثيراً، والحرص على تآلف وتقارب القلوب بين الأديان المختلفة ونبذ الفرقة، وتقديم الإصلاحات الفكرية و الدينية علي الإصلاحات السياسة، لكن أياَ من ذلك في أيامنا هذه غير مطبق مع الأسف، قال تبارك وتعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)، ما يؤكد أن وحدة الأمة هي مطلب قديم – جديد أن المفسرين قديماً وحديثاً ركزوا عليها، يقول الإمام محمد عبده في تفسير آية الشورى 13 و15 حول هذا الموضوع، (فهذه الآيات وأمثالها نصوص صريحة في أَن دين الله تعالى الّذي شرعه على ألسنة رسله ينافي الاختلاف والتفرّق، وأَنّ الله و رسوله بريء من المختلفين، وقد أرشدنا إِلَى المخرج مما فطر عليه النّاس من الاختلاف في الفهم والتنازع في الأمر) إذ قال في سورة النّساء: "يا أَيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللَّه وأَطيعوا الرسول وأُولي الأَمر منكم فَإن تنازعتم في شيء فَردوه إلَى اللَّه والرسول إن كنتم تؤمنون باللَّه واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا".
أخيراً، في بيئة أزهرية نبتت ورود إمام التجديد محمد عبده، الإمام الإصلاحي، فكان بحق مجدداً لأمر هذه الأمة ، وكان بحق نوراً انبثق من أفق الأزهر، ورأى في القرآن الكريم أصلاً للدعوة الفكرية الإصلاحية مهما تشعبت فروعها، وكان ينظر إليه على أنه أساس القوة ومصدر العزة للدولة الإسلامية والمسلمين جميعاً، فهو كتاب هداية وتشريع وأخلاق، هذا هو نهج الإمام صاحب الشخصية المهيبة يحيط بها الوقار، ويحفها الجلال، ويشع منها نور الحق، وللحديث أيضاً بقية.
*كاتب ومفكر – الكويت.