عبد العزيز بدر القطان*
يقول الشاعر أحمد مطر: يا قدس يا سيدتي .. معذرة.. فليس لي يدان.. وليس لي أسلحة.. وليس لي ميدان.. كل الذي أملكه لسان.. والنطق يا سيدتي أسعاره باهظة.. والموت بالمجان!
في كل زمان ومكان تخرج أبواق تشكك بمظلومية ناس ومظلومية أوطان، تشكك في القيم وفي الرموز بل يصل في بعض الأحيان تماديها إلى التشكيك في البديهيات والمسلمات العقدية للأمة، هذه الأصوات في حقيقة أمرها لا تعبر إلا عن نفسها ولا تعكس رأياً عاماً للأمة العربية والإسلامية، هذه الأصوات مقيتة ومدرمة لنفسها قبل أي أحدٍ آخر، مدمرة لقيم الأمة ورموزها وعقائدها، القدس عربية وستبقى عربية وستتحرر من براثن المعتدين.
هذه الأصوات المارقة التي تنكر التاريخ، بداعٍ وبدون داعٍ، بتواطؤ وبخنوع وباستسلام وجُبن، هؤلاء الأصوات يتبارون اليوم في نكران حقيقة القدس وثوابت القدس الراسخة في تاريخ الأمة العربية، وتصبح الخيانة والتماهي مع الأعداء وأهدافهم ذكاء ومسايرة للواقع، فكيف لمثقف عربي، كنا نحسبه مثقفاً وصاحب رأي على كثرتهم اليوم، أن يشكك في مشروعية نضال الأمة من أجل التحرر والإستقلال والسيادة، كيف لمثقف عربي أن يشكك في مشروعية نضال الشعب الفلسطيني في وجه الكيان الصهيوني مغتصب الأرض والمقدسات والسيادة؟
أسئلة كثيرة لكن الأجوبة حولهم عقيمة، ولا جدوى أو طائل منها، لكن من يبيع شرفه وقلمه وضميره يعني السقوط في الهاوية، كيف لمثقف يدعي ويشكك بمشروعية النضال من أجل القدس والأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين الحبيبة، ويعتبرها شرعية مشكوك فيها وكاذبة وأنها مجردُ شكل من أشكال التجارة بعواطف المؤمنين والمسلمين؟!، إن هذا الإنحطاط في الموقف والرؤيا، أوجَبَ علينا التحذير من هذه الفئة الساقطة المخذلة، والتي هي بحق باتت طابوراً خامساً، لتبرير الإرتماء تحت أقدام الأعداء، والتنازل عن أقدس حقوق الأمة في مقدساتها وفي أوطانها، وسوف يصفح عن الإستعمار القديم والجديد ويستدعي الإستعمار لإحكام قبضته على بلاد العرب والمسلمين ثانية.
هذا التوتر في القدس الحبيبة وفي أحد أحيائها "باب العامود" لمصلحة مَن؟ هل سنسمح دخول المستوطنين إلى بيوت في حي الشيخ جراح بعد أن تعرضت عائلات فلسطينية كثيرة فيه إلى سلسلة من القضايا القانونية وأصبحت معرضة لخطر الإخلاء الفوري من بيوتها؟ أين الضمير العربي ويوم القدس أتى واقتربت ليلة القدر؟
الشعب الفلسطيني لن يتخلى ولن يفرط بوطنه وعاصمته درة العرب مدينة القدس، وقبل أن تكون للقدس ولفلسطين مكانتهما العقائدية والدينية والثقافية، إنها الجغرافيا وطن الشعب الفلسطيني، الذي ليس له وطن بديل عنه، والشعب الفلسطيني سوف يبقى مؤمناً صامداً كالطود في وجه العدوان، فالأمة بسوادها الأعظم ومفكريها ومثقفيها الحقيقيين هم مع القدس ومع فلسطين وشعبها، صامدون في وجه الطوفان والعدوان كما في وجه التهافت والخسة والنذالة والتشكيك في مشروعية كفاح الأمة من أجل الحرية، والنهوض بها ودحر الأعداء، مؤكدين صدق مشروعية النضال للأمة جمعاء من أجل القدس ومن أجل فلسطين، ولن يسقط حق الشعب الفلسطيني ومعه الأمة العربية مسلميها ومسيحييها في القدس وفي فلسطين، في الأقصى وفي القيامة.
إن قضية الشعب الفلسطيني هي القضية العادلة والرسالة الواضحة لعدو ولحلفائه وللمتساقطين أن الشعب الفلسطيني لن يكون وحيداً في معركته المستمرة من أجل استرداد حقوقه المشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
إن نضال أبناء حي الشيخ جراح هو نضال ضد التطبيع وضد الأنظمة العربية المتواطئة، نضال للدفاع عن حق الوجود والأرض، الحي الذي يشهد موجة تشهير على مرأى ومسمع من كل الدول المتواطئة في إطار مخطط الاحتلال الصهيوني الساعي إلى تهويد القدس، المقدسيون اليوم في نضالهم أذلوا الأمة الخانعة من محيطها إلى خليجها، سلاحهم الحق في وجه الآلة الصهيونية الغاشمة، يقاومون بصدورهم العارية وحشية الاحتلال الصهيوني المتمثل في سرقة المنازل والاعتداء عليهم بالضرب والتنكيل، والتعرض للنساء المقدسيات الشريفات العفيفات في ظل التطبيع والتواطئ العربي والصمت الدولي، حقاً وامعتصماه!
ما يحدث في القدس اليوم يعيدنا بالذاكرة إلى موقعة عمورية في عهد الخليفة المعتصم، عندما قام ملك الروم بالهجوم على المسلمين وأخذ في الأسر ألف امرأة من المسلمات، وفي هذه الحادثة أن امرأة من المسلمات الهاشميات صرخت مستغيثة لما أخذت في الأسر "وااامعتصماه"، فلما بلغ المعتصم ذلك استعظمه وكبر لديه حيث بلغه أن امرأة هاشمية صاحت، وهي أسيرة في أيدي الروم: وامعتصماه! فأجابها لبيك لبيك! ونهض من ساعته، وصاح في قصره: النفير النفير، ثم جمع العساكر، فجلس في دار العامة، لنصرة المسلمات، فهل من معتصمٍ بيننا اليوم؟ وهل هناك من ينهض بشرف الأمة العربية وحماية مقدسات الأمة وبخاصة فلسطين؟
في حي الشيخ جراح في مدينة القدس المحتلة، نضال فلسطيني يومي للدفاع عن حق الوجود والبقاء في هذه المنطقة المهددة بالإخلاء خلال أيام، وهي معركة يصرّ الأهالي على مواصلتها لمواجهة الهجمة الاستيطانية الشرسة ضدهم، فيما يتعامل الاحتلال مع وجود المقدسيين كشيء مؤقت. وبينما يرفع الأهالي الصوت عسى أن تلقى صرختهم استجابة دولية بما في ذلك إطلاقهم حملة "أنقذوا حي الشيخ جراح" على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فإن صراع العائلات مع المستوطنين دخل هذه الأيام عامه التاسع والأربعين، وهو جزء لا يتجزأ من قضية القدس وفلسطين عامة.
أهالي القدس يواصلون الليل بالنهار، لا يذوقون طعم النوم، للدفاع عن منازلهم، يقول أيضاً الشاعر أحمد مطر: كفرت بالأقلام والدفاتر.. كفرت بالشعر الذي لا يوقف الظلم ولا يحرك الضمير.. فعلاً إن الضمير في غفلةٍ وفي سباتٍ عقيم، الواقع العربي مريض، ولك الله يا فلسطين، وماذا بقي لمن باعوا الضمائر وباعوا فلسطين؟ ماذا بقي من ماء وجه لهم، بعد أن تواطؤوا مع الأعداء من أجل تكميم أفواه شعوبهم، وقمعها من أجل إرضاء أسيادهم المستكبرين المستعمرين؟ وهل بقي لهذه الشعوب المستضعفة والمغلوب على أمرها أن تقبل بهذه الأنظمة الفاجرة الخائنة؟ أو أن تستكين لها ولمؤامراتها ودسائسها ضد شعوبها المظلومة؟
لا أجمل أن نختم بهذه الأبيات علّ الأمة تستيقظ وهل الضمير يصحو؟ لكن القدس ستعود بفضل أبنائها الشرفاء.
أمن التأدب ان أقول لقاتلي.. عذراً إذا جرت يديك دمائي.. أأقول للكلب العقور تأدباً.. دغدغ بنابك يا أخي أشلائي؟.. أو أدعو البغيّ بمريم العذراء؟.. أأقول للمأبون حين ركوعه.. حرماً؛ وأمسح ظهره بثنائي.. أأقول للص الذي يسطو على كينونتي: شكراً على إلغائي.. الحاكمون هم الكلاب.. مع اعتذاري فالكلاب حفيظة لوفاء.. وهم اللصوص العاهرون وكلهم عبد بلا استثناء.. إن لم يكونوا ظالمين فمن ترى.. ملأ البلاد برهبة وشقاءِ.
*كاتب ومفكر – الكويت.