تعرضت مصر خلال العقود الماضية لتجارب واختبارات كبرى حققت فيها نجاحات لافته غيرت مجرى الأحداث التي جاءت بعدها، وأهم هذه التجارب كانت حرب أكتوبر ١٩٧٣م المجيدة وثورة ٢٥ يناير ٢٠١١م، وتأتي الثالثة لتماثل في أهميتها تلك التجارب التاريخية، ونقصد هنا أزمة مياه النيل الراهنة أو قضية سد النهضة الأثيوبي، وعندما نستدعي تلك التجارب التاريخية المختلفة وما تحقق فيها ونسقطها على أرض الواقع ونضعها في دائرة التحليل، يتأكد لدينا أن مصر تتجلى في الحواسم التاريخية الكبرى، فهي مصر التي لا يمكن تجاوز حقوقها ولا يمكن اهانتها ولا يمكن التحكم بمصيرها وحياة أبناءها.
ما جرى من متغيرات في الشأن المصري خلال العقود الخمسة الماضية سواء المتعلقة بطبيعة الأنظمة الحاكمة أو ظروف الحياة العامة أو المتغيرات الديموغرافية والسيكولوجية أو الاستنزاف الذي تعرض له الفكر القومي العربي، والاستهداف الخارجي وغيرها من الاشكالات التي يبرزها النقاد في الشأن المصري لم يكن ليغير من متانة موقفها الوطني في مثل هذه الحالات التي تتحد فيها جميع شرائح الوطن حول قضاياها المصيرية، فتستنهض عنفوانها التاريخي وريادتها الاقليمية وأسرارها المصرية لتحقق معادلة النجاح في كل زمان.
كان ومازال يراد لمصر أن تكون الجائزة الكبرى في إطار صراع الحضارات ولعبة الأمم، لكنها لم ولن تكن كذلك لأنها أحد أهم صناع الأحداث في التاريخ، وهذا التوصيف ليس من قبيل التمجيد بل هو الواقع الذي أثبتته وقائع التاريخ.
في عام ١٩٧٣م كانت ملحمة العبور وكسرت مصر أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وفي عام ٢٠١١م كانت ثورة ٢٥ يناير وفي كلا الحدثين كانت مصر على الموعد، واليوم تتعرض مصر الى حدث مشابه من حيث أهميته وتأثيراته وأبعاده الخارجية، وهو قضية مياه النيل أو قضية سد النهضة التي تمثل اختبارا تاريخيا آخر لا يقل خطورة عن سابقيه، بل هو قضية حياة أو موت بالنسبة لمصر، حيث أن فرض الارادة والتحكم بمياه النيل وفق الرؤية الأثيوبية حول ملء السد وتشغيله تمثل خطرا محدقا بمصر، وتعصف بالأمن والاستقرار في القرن الافريقي عموما، فالنيل ارتبط بمصر وحقوقها التاريخية، وهناك اتفاقيات دولية سابقة حددت حصص مصر والسودان، ومنحت مصر حق الاعتراض على إقامة أية منشآت على منابع النيل، فكيف يمكن تقليص هذه الحقوق وقد تضاعف حجم الدولة في مصر؟!
اليوم هناك قرارا” أحاديا” في اثيوبيا بالمضي قدما في تنفيذ الملء الثاني لسد النهضة مع موسم الامطار المقبل في يوليو ٢٠٢١م، وهذا بحوالي ١٣،٥ مليار متر مكعب، بحيث تصبح المياه المملوءة في السد تزيد عن ال١٨ مليار متر مكعب، وبانتهاء الملء الثاني فإن مصر بالذات ستتعرض الى شح كبير في المياه سيطال تأثيراته السد العالي وبحيرة ناصر، وسيعرض مصر الى مخاطر تقليص المساحة الزراعية وتأثير ذلك على حياة مواطنيها بشكل عام، الامر الآخر أنه في حال حدوث الملء الثاني فلا يمكن لمصر من الاقدام على أية مخاطرة بعمل عسكري يستهدف السد نظرا لخطورته على السودان، وتكون اثيوبيا قد تحكمت بالاجراءآت اللاحقة في عملية ملء السد وتشغيله وهي موضع الخلاف الرئيسي بين الدول الثلاث.
يبدو أن اثيوبيا ماضية في إجراءآتها الاحادية باستهلاك الوقت وتعنت موقفها رافضة التوصل الى اتفاق يحدد آلية الملء والتشغيل دون مراعاة لخطورة ذلك على دولتي المصب مصر والسودان، حيث ترغب أثيوبيا في استكمال ملء السد حسب رؤيتها بين ثلاث الى خمس سنوات وهو ما يمثل خطرا حقيقيا على حياة ١٥٠ مليون مواطن في مصر والسودان، كما أن هناك مخاوف أخرى تتعلق بالجوانب الأمنية (الانشائية) للسد وآلية التشغيل وأهمية وجود إدارة مشتركة ومراقبين من دول حوض النيل أو مراقبين دوليين، مع الالتزام بعدم إقامة سدود أخرى قد تفاقم من خطورة الموقف مستقبلا.
الموقف الاثيوبي يتحدث عن ممارسة السيادة باعتبار المياه عابرة لأراضيه وأعلنت انها لا تنتظر موافقة مصر والسودان في تنفيذ ملء السد، كما أعلنت في رسالة واضحة أن لها الحرية التامة في العمل مستقبلا وفقا لما يتوافق مع مصالحها دون مراعاة لبقية الشركاء وحقوقهم التاريخية، كما تتحدث أثيوبيا عن حاجتها لتوفير الطاقة الكهربائية وامداد الملايين من أبناء شعبها بالكهرباء في استعجال لا نعلم أسبابه بهذا الشكل؟! وبالتالي فلا يستبعد مستقبلا اقامة سدود أخرى تحجز مياه نهر النيل وتقلص حصص مصر والسودان بشكل أكبر حسب هذه الرؤية؟!
بالمقابل فإن مصر لم تمانع من اقامة هذا السد الذي يستوعب ٧٤ مليار متر مكعب أي ما يعادل حصص مصر والسودان معا خلال عام كامل، وبالتالي فإن ملء السد وفقا لرغبة أثيوبيا سيقلص حصص مصر والسودان، ويمكن تعرضهما لمخاطر أكبر خلال سنوات الجفاف والجفاف الممتد، والتأثير بشدة على السد العالي بمصر وسدود السودان، مما قد يوقف بعض المحطات فيها عن العمل، بالاضافة الى المخاوف المتعلقة بالجوانب الأمنية للسد سواء” لأسباب طبيعية تكتونية أو أسباب صناعية انشائية في المستقبل المنظور.
أمام هذه الظروف المتصاعدة على أثيوبيا تقدير تلك المخاوف والمخاطر، وتحكم لغة الجوار والعلاقات التاريخية والرابطة الافريقية لانهاء هذه الازمة وكبح جماح المتربصين، لأسباب عدة أولها أن اقامة هذا المشروع لا بد له من توافق دولي وعدم الاضرار بحياة الملايين لهم الحق في هذه المياه أيضا، كما أن مصر لم تمانع إقامة السد وانحصرت مطالبها في تمديد سنوات الملء بحيث لا تؤثر بشكل حاد على نصيبهما من المياه في ظل ما يتعرض له النيل من دورة جفاف، وفي ظل اعتماد شعبها المتنامي على هذا المورد المائي الذي يمثل شريان الحياة، فلماذا كل هذا التعنت من قبل أثيوبيا امام مطالب مصر والسودان؟!!
ما زلنا نأمل قبول اثيوبيا بالحلول السلمية التي تجنب القارة الافريقية والعالم تداعيات أي خيار آخر، والحلول السلمية هنا تتطلب فقط نوايا حسنة ورغبة في طي صفحة هذه الأزمة بتمديد فترة الملء الى سنوات أطول حسب اتفاق تلك الاطراف، وهو خيار تكلفته لا تقارن بتكاليف أي خيار آخر، وعلى المجتمع الدولي أن يضطلع بدوره في الحفاظ على الأمن والاستقرار العالمي، وكانت أثيوبيا قد رفضت مقترحا سودانيا يطلب وساطة اللجنة الرباعية الدولية، ما يوحي باصرار اثيوبي على تنفيذ رؤيتها الأحادية، ولذلك بدأت مصر تحركاتها بتحميل المجتمع الدولي مسئولياته وتوضيح موقفها للرأي العام الدولي والمؤسسات الدولية، وقام وزير الخارجية المصري سامح شكري بتوجيه رسائل ثلاث الى الامين العام للأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن ورئيس الجمعية العام للأمم المتحدة، شرح كل التطورات المتعلقة بأزمة سد النهضة في تأكيد واضح على أن مصر اذا استنفذت خياراتها الدبلوماسية فإن لها الحق بالدفاع عن مصالحها، وقد حدث بالستينيات من القرن الماضي أن استخدمت “اسرائيل” حق الدفاع عن مصالحها عندما قرر العرب تحويل نهر الاردن عن “اسرائيل” فأقدمت على قصف منشآت تحويل نهر الأردن قبل اكتمال تحويله، في حادثة بررتها بحقها في الدفاع عن نفسها، وفي نفس السياق قد تلجأ مصر الى هذا الخيار اذا لم يتم التوصل الى اتفاق ملزم قبل الملء الثاني، ولا شك أن الاجهزة في جمهورية مصر العربية قد وضعت كل السيناريوهات على الطاولة ودرست كل الظروف والتبعات فيما لو وصلت الامور الى هذا الحد، واليوم أصبحت مصر في حالة اصطفاف جماعي لاستعادة حقوقها المشروعة، وقد بات على الامم المتحدة أن تتخذ اجراءآت عاجلة لانهاء هذا الملف قبل فوات الأوان.
سد النهضة بدأ العمل به في عام ٢٠١١م، واستمرت المفاوضات بشأن سد النهضة لسنوات وتم التوقيع على اتفاق اعلان المبادئ في عام ٢٠١٥م بالخرطوم، وجرت مفاوضات عديدة كادت أن تنتهي باتفاق واشنطن لولا مقاطعة الطرف الاثيوبي مشروع الاتفاق، ووقعت مصر بالاحرف الاولى، واحتفلت اثيوبيا في يوليو ٢٠٢٠م ببدء المرحلة الأخيرة لمشروع السد، وقامت بالملء الأول دون تنسيق مع بقية الاطراف، وحددت موعدا للملء الثاني في يوليو المقبل مع موسم الأمطار، لذا تراوحت الأزمة على طاولة المباحثات كان آخرها قبل بضعة أيام لم تسفر عن نتائج ايجابية، فأصبحت مصر والسودان أمام موقف خطير دفعت المسئولين في البلدين الى الحديث عن خيارات مفتوحة لمعالجة هذه الأزمة ، وهنا يمكن للولايات المتحدة أن تضغط بدورها لوضع الاتفاق المبرم في واشنطن كحل مشترك تم التوصل إليه في وقت سابق، فلم يعد هناك مجالا للتسويف، لذا فقد باتت الخيارات محصورة.
الأمن المائي في مصر يعتبر أمنا قوميا، ومصر هي قلب العالم العربي تضخ الدماء في شرايين الجسد العربي، ولا يمكن لهذا الجسد البقاء على قيد الحياة اذا أصيب القلب، لذلك يعتبر أمن مصر خطا” أحمر لا يمكن المساومة فيه، وقضية سد النهضة تمس الأمن القومي العربي عموما، لذا فقد أعلنت عدد من الدول العربية تضامنها مع مصر في بيانات صدرت من تلك الدول في ٣١ مارس ٢٠٢١م فقد أعلنت سلطنة عمان والسعودية والامارات العربية المتحدة والأردن تضامنها مع مصر، ولا شك أن العرب جميعا مع مصر في كل قضاياها المصيرية، لأنها تمثل العمق العربي وتمثل الأمن القومي العربي، وتعبتر زيارة الرئيس التونسي قيس بن سعيد الى مصر إشارة بالغة الأهمية عن هذا التضامن العربي، وختاما نأمل انتهاء أزمة سد النهضة بالطرق الدبلوماسية حفاظا على الحقوق التاريخية لمصر والسودان، وحفاظا الامن والاستقرار في العالم.