أمريكا الموحدة .. حقيقة أم أضغاث أحلام ؟
د. محمد السعيد إدريس
إذا كانت ذاكرة الأمريكيين الجمعية تبدو فارغة من ما يمكن اعتباره أياماً عصيبة أو أحداثاً مريرة منذ انتهاء حروب التوحيد الأمريكية، على خلاف أحوال كثير من الشعوب، خصوصاً هؤلاء الذين دفعوا أثماناً فادحة للاستكبار والغطرسة الأمريكية، فإن هذه الذاكرة المعطلة عن رصد الأحداث الأليمة باتت مرغمة لترقب مخاطر قد تكون الأولى من نوعها، لسبب أساسى هو أنها، وللمرة الأولى تأتى هذه التحديات والتهديدات من الداخل الأمريكى.
يتذكر الأمريكيون جيداً حادثة تدمير اليابانيين لميناء "بيرل هاربر" الأمريكى عام 1943 فى أوج تطورات الحرب العالمية الثانية، وهى الحادثة التى دفعت بهم إلى أتون تلك الحرب التى ظلوا بمنأى عنها مستفيدين من خصوصية جغرافيتهم التى تعزلهم عن أحداث العالم الساخنة. كما يتذكر الأمريكيون تفجيرات 11 سبتمبر 2001 فى واشنطن ونيويورك التى حفزت إدارة جورج بوش الابن لافتعال ما أسماه بـ "الحرب على الإرهاب" التى هاجم فيها أفغانستان عام 2002 وغزا فيها العراق واحتله ودمره عام 2003 بمزاعم لها علاقة بتلك الحرب أو بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل ووجود اتصالات عراقية مع تنظيم "القاعدة" الذى اتهم بالمسئولية عن تلك التفجيرات. لكن كلا الحدثين: بيرل هاربر وتفجيرات 11 سبتمبر 2001 جاءا من مصدرين خارجيين، وهو أمر يختلف كثيراً عن الحدث الدرامى والدامى الجديد الذى عاشه الأمريكيون يوم الأربعاء قبل الماضى السادس من يناير 2021، يوم اجتياح مؤيدى الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته دونالد ترامب مبنى الكونجرس (الكابيتول هيل) فى العاصمة الأمريكية، حيث جاء التهديد من داخل الولايات المتحدة، ولا أحد بمقدوره أن يعرف ما إذا كان هذا الاجتياح الدامى، الذى حمَّلت نانسى بيلوسى رئيسة مجلس النواب الرئيس ترامب مسئوليته ووصفته بأنه "ثورة مسلحة"، سيكون نهاية مأساة الصراع على السلطة، أم هو مجرد بداية لـ "كرة الثلج" التى ستظل تتدحرج وتكبر إلى أن تصل إلى ذروتها بفرض تقسيم وتفكيك الولايات المتحدة واقعاً مادياً ملموساً.
الساعات المتبقية من ولاية دونالد ترامب من الآن وحتى ظهر الغد الأربعاء 20 يناير 2021 بتوقيت واشنطن موعد تنصيب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة ستحمل بعض مؤشرات للإجابة على هذا السؤال. وإذا كان الرئيس الأمريكى المنتخب جو بايدن قد استبق الأحداث لنفى الخطر عن أمريكا واستعادة الوحدة وإعادة بناء أمريكا عظيمة، فإن ما قاله بايدن بهذا الخصوص، وربما ما سيقوله أيضاً فى حفل تنصيبه غداً، وما سيلى ذلك من أيام وأسابيع وشهور، قد لا يكون إلا مجرد قفز فى المجهول .
لجنة تنظيم حفل أداء اليمين الدستورية قالت أن "أمريكا الموحدة" سيكون شعار تنصيب الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، وأشارت إلى أن جو بايدن سيحيط نفسه بأسلافه من الرؤساء السابقين (من هم على قيد الحياة) بارك أوباما (ديمقراطى) وبيل كلينتون (ديمقراطى) وجورج دبليو بوش (جمهورى – أدان بشدة حادثة اقتحام الكونجرس واعتبر أنها حولت الولايات المتحدة إلى "جمهورية من جمهوريات الموز"). وفى ذات الوقت أكد رون كلاين الذى اختاره بايدن ليكون كبيراً لموظفى البيت الأبيض أن بايدن سيوقع 12 أمراً تنفيذياً عقب حفل تنصيبه مباشرة "لإصلاح أشد أضرار إدارة ترامب جسامة والدفع بالبلاد قدماً" وأوضح أن الأوامر التنفيذية تتعلق بالتصدى لجائحة كورونا وتدهور الاقتصاد الأمريكى واللامساواة العرقية، والتغير المناخى. لكن يبقى السؤال ضرورياً حول ما إذا كانت كل هذه الأوامر وغيرها من الإجراءات ومن ضمنها تشكيل إدارة أمريكية قوية وفاعلة ومتماسكة ستكون كافية لمنع الانزلاق الأمريكى نحو الهاوية الذى يتحدث عنها كثيرون؟ وهل سيكون فى مقدور بايدن فعلياً جعل أمريكا موحدة .
أول الاختبارات التى ستواجه هذا الشعار ستكون غداً بالتزامن مع حفل التنصيب الذى رفض دونالد ترامب المشاركة فيه وقرر أن يضرب عرض الحائط بكل الأعراف والتقاليد الخاصة بتسليم السلطة، وأن يبقى بالبيت الأبيض إلى ما يسمى بـ "الرمق الأخير" من الساعات وربما الدقائق المتبقية من ولايته، لأنه على يقين بأنه "الرئيس الفائز" وأن "الانتخابات مزورة". الأكثر من ذلك أن ترامب الذى سيغادر البيت الأبيض على متن الطائرة الرئاسية مروراً بالبساط الأحمر متجهاً إلى منتجعه فى ولاية فلوريدا، فى إشارة واضحة إلى أن هذا الذى يحدث ليس نهاية عهده بالسياسة، لكن ربما يكون مقدمة لها. وتأكيداً لذلك كان ترامب قد خاطب أنصاره محرضاً لهم يوم واقعة السادس من يناير لمنع إعلان فوز بايدن خلال الاجتماع الذى كان منعقداً لهذا الغرض فى ذات الوقت بالكونجرس وقال "فزنا بالانتخابات فوزاً كبيراً، والنتائج لم تكن متقاربة، ولن نتنازل ولن نتخلى ولن نعترف بالهزيمة" وتابع "حصلت على 75 مليون صوت انتخابى، ومع ذلك يقولون إننى لم أفز.. لن نسمح بإسكات أصواتكم ولن نقبل بذلك" بعد ذلك قدم ترامب ما يمكن اعتباره "رثاء" لولايته الرئاسية وقال "أنها نهاية واحدة من أفضل أولى الولايات فى تاريخ الرئاسة، لكنها مجرد بداية معركتنا من أجل أن نعيد أمريكا عظيمة".
إذا كان ترامب يرى أن كل التمرد الحادث الآن هو مجرد بداية لما هو قادم، فإن حالة التجييش الذى تشهدها العاصمة الأمريكية ومعظم عواصم الولايات، خشية وقوع اعتداءات دموية يقوم بها أنصار ترامب، تؤكد، وفق تقديرات الأجهزة الأمنية وخاصة مكتب التحقيقات الفيدرالى أن المخاطر "ربما تكون هائلة، أخذاً فى الاعتبار ما ورد على لسان الإدعاء الأمريكى بأن مثيرى الشغب من أنصار ترامب الذين اقتحموا الكونجرس "كانوا يهدفون أسر واغتيال مسئولين منتخبين"، ناهيك عن وجود قناعات بوجود اختراقات أمنية فى صفوف الشرطة من جانب أنصار ترامب، لكن الأخطر هو ما يتردد من احتمال وجود انقسام فى الولاءات فى صفوف الجيش الأمريكى. فحسب وكالة رويترز أنه على الرغم من اتخاذ قيادة الجيش، بعد تردد وانتظار طال قليلاً، قراراً بدعم الشرعية الجديدة للرئيس جو بايدن إلا أن هذا "لا يمنع من وجود مخاوف من وجود انقسامات داخله وأن هناك قسم كبير من الجيش بيض وذكور، وقد يكونوا، وفق معلقين متطرفين لصالح ترامب".
كل هذا مجرد مؤشرات أولية سوف تختبر ما إذا كان جو بايدن قادراً على جعل شعار "أمريكا موحدة" واقعاً وحقيقة أم على العكس يمكن أن تتحقق نبوءة المفكر اليسارى الأمريكى نعوم تشومسكى التى تحدثنا عنها فى الأسبوع الفائت بأنه "بات من المستحيل مجئ رئيس أمريكى يكون قادراً على صنع الإجماع الوطنى"، وأن ما هو قادم قد يكون العكس تماماً.